صيدا سيتي

الشغف المعرفي ودوره في تشكيل المسار العلمي الحاج حسن محمود غنوم العينا (أبو وائل) في ذمة الله الحاج أحمد جمال الجردلي في ذمة الله فعاليات رسائل النور في عدة مناطق في لبنان أحمد أمين الديماسي في ذمة الله مصطفى محمد أمين البيلاني في ذمة الله رحلة العودة إلى الجوهر واستعادة البوصلة الأصيلة الشباب والفتن... كيف نصمد؟ الصوت الداخلي إعادة الارتباط بهوسك الطفولي وأثره في مسار الحياة المهنية تشك إن… مكافأة الأسبوع لكل تلميذ شاطر! رحلة الإتقان: من اكتشاف الدافع الداخلي إلى التميز المستدام بيان صادر عن مؤسسة مياه لبنان الجنوبي مشهد جديد لزيرة صيدا من الجو ازرع المسؤولية في طفلك… قبل أن تطلبها منه برامج ودورات الإمام ابن الجزري لتحفيظ القرآن ونشر علومه - صيدا معهد عودة للدروس الخصوصية يعلن عن بدء التسجيل للعام 2025-2026 موقع صيدا سيتي يفتح المجال أمام الأقلام لكتابة حكايات المدينة لإعلانك في قسم | خاص صيدا سيتي | (أنظر التفاصيل)

الشغف المعرفي ودوره في تشكيل المسار العلمي

إعداد: إبراهيم الخطيب - الجمعة 31 تشرين أول 2025 - [ عدد المشاهدة: 388 ]

تؤكد تجارب العلماء والمفكرين أن الانجذاب نحو مجال محدّد منذ الصغر قد يكون الشرارة التي تشعل مسيرة حياة مليئة بالمنجزات والاكتشافات. فالشغف هو الطاقة الخفية التي تدفع الإنسان لتجاوز العقبات وتحويل الاهتمام إلى إبداع ملموس. في هذا الإطار، تمثّل تجربة عالم الأنثروبولوجيا واللغات الأمريكي دانيال إيفريت (Daniel Everett) مثالًا ملهِمًا على قوة التركيز على ما يثير الاهتمام، وكيف يمكن لهذا التوجه أن يصوغ مسارًا علميًا وإنسانيًا فريدًا.

الطفولة في بيئة قاسية

وُلد دانيال إيفريت سنة 1951 في مدينة صغيرة على الحدود بين كاليفورنيا والمكسيك، في بيئة يغلب عليها الفقر والعنف والتهميش. كانت المدينة تعجّ بالمهاجرين والعمال البسطاء، وتفتقر إلى مظاهر الرخاء أو التعليم المتقدّم. غير أنّ هذه البيئة نفسها، بما فيها من تنوّع ثقافي وتفاعل لغوي، شكّلت المهد الأول لفضول إيفريت العلمي. فقد جذبته منذ طفولته اللغة المكسيكية المحلّية، ولفتت انتباهه نبرات الأصوات التي يتبادلها العمال المهاجرون في الأسواق والشوارع، فبدأ يلتقط كلماتهم ويحاول تقليدها.

الانبهار بالثقافة المكسيكية

تحول اهتمامه بالثقافة المكسيكية إلى افتتان عميق بطبيعة الإنسان المختلف. أحبّ إيفريت المأكولات الشعبية المكسيكية مثل "التاكو" و"التامال"، وشارك في احتفالاتهم الشعبية التي تمزج بين الطقوس الدينية والفرح الجماعي، كما تأمل طريقة عيشهم البسيطة المتماسكة. أدرك الطفل المراهق أن ثمة عوالم متوازية تتقاطع على أرض واحدة، وأن لكل مجتمع لغته الخاصة التي تعبّر عن نظرته للحياة. ومن هنا بدأت بذرة اهتمامه بالأنثروبولوجيا واللغات.

من الشغف إلى الاختصاص

تابع إيفريت دراسته في جامعة مورالين في كاليفورنيا ثم التحق ببرامج بحثية متخصصة في دراسة اللغات غير المدوّنة. لم يكن اهتمامه أكاديميًا بحتًا، بل كان يسعى لفهم كيف تعبّر اللغة عن روح الإنسان وثقافته. في منتصف سبعينيات القرن العشرين، عُيّن باحثًا ميدانيًا في البرازيل، حيث تعرّف على قبيلة البيراهان (Pirahã) في غابات الأمازون، وهي قبيلة لا تتحدث أي لغة أوروبية ولا تمتلك نظام كتابة. هذه التجربة كانت نقطة التحوّل الكبرى في مسيرته.

تجربة البيراهان: اختبار الشغف بالآخر

أمضى إيفريت أكثر من ثلاثة عقود يعيش بين أفراد القبيلة، متعلمًا لغتهم ومحاولًا فهم بنيتها الداخلية. كانت لغة البيراهان من أغرب لغات العالم، إذ تفتقر إلى الأزمنة المعقّدة، ولا تحتوي على مفردات للتعبير عن الماضي البعيد أو المستقبل، ما جعلها موضوعًا للجدل العلمي الواسع.
عام 2008 أصدر إيفريت كتابه الشهير “Don’t Sleep, There Are Snakes”، الذي عرض فيه تفاصيل تجربته الفريدة. ومن خلاله قدّم للعالم رؤية جديدة حول العلاقة بين اللغة والثقافة والإدراك، مبيّنًا أن كل لغة هي نافذة على طريقة تفكير أصحابها.

تجاوز الانتماءات الفكرية

كانت مسيرة إيفريت مليئة بالتحولات الفكرية. فبعد أن كان مبشّرًا مسيحيًا ذهب إلى الأمازون لنشر الإنجيل، قادته معايشته للبيراهان إلى إعادة النظر في قناعاته الدينية والفكرية. قال في مقابلة مع مجلة The Guardian سنة 2009:

“لقد علّمني البيراهان أن المعنى لا يُفرض من الخارج، بل يُبنى من داخل التجربة الإنسانية نفسها.”

هذا التحول هو نتاج ممارسةٍ حقيقيةٍ لما أحبّه منذ طفولته: التواصل مع المختلفين وفهم عوالمهم. وهكذا تحوّل اهتمامه الأول بالثقافة المكسيكية إلى مشروع إنساني شامل لفهم تنوّع البشر.

أثر الشغف في المسار الأكاديمي

بفضل مثابرته، أصبح إيفريت أحد أبرز الأصوات النقدية في علم اللغة الحديث. فقد دخل في جدال شهير مع اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) حول نظرية القواعد الكونية، مؤكّدًا أن اللغة ليست نظامًا بيولوجيًا ثابتًا، بل نتاج ثقافي متحوّل. وقد نُشر هذا النقاش في دوريات علمية بين عامي 2005 و2012، وأثار جدلًا عالميًا أعاد تعريف العلاقة بين اللغة والفكر.

الشغف كمحرك للإبداع

تجربة دانيال إيفريت تُظهر أن الاهتمام الحقيقي بما يجذب الإنسان منذ الصغر يمكن أن يتحول إلى مسار حياة. فحين يتجه الفرد نحو ما يحبّ، يجد نفسه منساقًا للعمل والتعلّم بلا ملل. إيفريت كان يسعى إلى فهم الإنسان. ومن خلال هذا الشغف اكتشف ما لم تكتشفه النظريات الجاهزة.
لقد جسّد مبدأً بسيطًا لكنه عميق: مارس ما تحبّ بكامل طاقتك، لأنّ الطاقة تنبع من المعنى، والمعنى يُولد من الاهتمام.

أمثلة موازية من التاريخ

تشبه قصة إيفريت قصص علماء آخرين ساروا على النهج نفسه.

ألبرت آينشتاين، الذي وُلد عام 1879، كان مولعًا بالضوء منذ طفولته. لم يتوقف عن التساؤل: كيف سيكون شكل العالم إذا ركب شعاعًا من الضوء؟ هذا الفضول وحده قاده إلى صياغة نظرية النسبية عام 1905.

ماري كوري، عالمة الفيزياء والكيمياء الفرنسية، جذبتها منذ صغرها المواد المشعة والظواهر الغامضة، فكرّست حياتها للبحث حتى نالت جائزة نوبل مرتين (1903 و1911).

ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل، كان مفتونًا بتقاطع الفن والتكنولوجيا، فحوّل اهتمامه بالتصميم إلى ثورة غيّرت وجه العالم الرقمي.

كلّ هؤلاء، مثل إيفريت، لم ينتظروا الظروف المثالية، بل استثمروا طاقاتهم في ما أثار شغفهم.

قاعدة النجاح: الانغماس في ما يجذبك

تقدّم تجربة إيفريت درسًا بليغًا للباحثين والطلاب وكل من يسعى إلى التميّز. فبدلًا من البحث عن ما يرضي الآخرين أو ما يبدو مربحًا، يجدر بالإنسان أن يسأل نفسه: “ما الشيء الذي يجذبني بصدق؟ ما الفكرة التي تسرق انتباهي في كل مرة؟”

حين يكتشف الإنسان هذا المجال، ويغمر نفسه فيه بالقراءة والممارسة والتجريب، يبدأ التحوّل الحقيقي. فالإنجازات العظيمة تولد من الانغماس في الشغف حتى يصير جزءًا من الهوية.

دلالات حضارية وتربوية

من منظور تربوي، تُبرز تجربة إيفريت أهمية الاهتمام الفردي كمدخل لبناء الإبداع الجماعي. فالمجتمعات التي تشجّع أبناءها على اكتشاف ميولهم وتطويرها تنتج علماء ومبدعين في كل مجال. وعلى المستوى الحضاري، يشير هذا إلى أن النهوض يبدأ من الإنسان الشغوف الذي يعمل بما يحبّ ويعطيه من قلبه. فالشغف المتّقد يولّد المعرفة، والمعرفة تبني الحضارة.

قاعدة جوهرية

يعلّمنا دانيال إيفريت أن الاهتمام الحقيقي هو طريقٌ لاكتشاف الذات والإنسانية. لقد وُلد في بيئة فقيرة، لكنه وجد في اللغة والثقافة المكسيكية بذرة حياةٍ جديدة. سار وراء ما أحبّ، فعاش مغامرته الكبرى بين شعوب الأمازون، وخرج منها بعلمٍ جديد ورؤية إنسانية رحبة.

القاعدة التي تتلخص من كل ذلك بسيطة لكنها جوهرية: "حدّد الشيء الذي يجذب اهتمامك، ومارسه الآن بكامل طاقتك. فما تُحِبّ هو الطريق الأقصر إلى ما تُبدِع، وما تُبدِع هو ما يخلّد أثرك في العالم."


 
design رئيس التحرير: إبراهيم الخطيب 9613988416
تطوير وبرمجة: شركة التكنولوجيا المفتوحة
مشاهدات الزوار 1007196425
الموقع لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة فيه. من حق الزائر الكريم أن ينقل عن موقعنا ما يريد معزواً إليه.
موقع صيداويات © 2025 جميع الحقوق محفوظة