صيدا سيتي

الصوت الداخلي

إعداد: إبراهيم الخطيب - الأربعاء 29 تشرين أول 2025 - [ عدد المشاهدة: 178 ]

أولًا: مفهوم الصوت الداخلي ومعناه النفسي

يُعدّ مفهوم "الصوت الداخلي" من المفاهيم العميقة التي تناولها علماء النفس الإنسانيون في إطار البحث عن الدافع الأصيل للحياة ومعناها. فقد أكّد العالم الأمريكي أبراهام ماسلو (Abraham Maslow)، أحد أبرز منظّري علم النفس الإنساني، أنّ استعادة معنى الحياة وجدارتها بالعيش لا تتحقّق إلّا عبر استعادة الإنسان لقدرته على الإصغاء إلى الأصوات الصادرة من أعماقه، تلك الأصوات التي تمثّل نداءات التجربة الذاتية، وتعبّر عن جوهر الرغبة الأصيلة في الاكتشاف والإبداع. يرى ماسلو أنّ الإنسان حين يُحرم من هذا الإصغاء الداخلي، يفقد صلته بالذات الحقيقية، ويتحوّل إلى كائن منقاد لما تفرضه البيئة الخارجية من توقعات ومعايير.

ثانيًا: الطفولة كمهدٍ للأصوات الداخلية

يُعيد هذا المفهوم إلى الأذهان تجربة الطفولة، حين يكون العالم مفتوحًا على الدهشة والتساؤل، ويملك الطفل فضولًا لا يُحدّ. فالأصوات الداخلية التي تحدّث عنها ماسلو تتجلّى في تلك اللحظات الأولى من الوعي، عندما ينجذب الطفل إلى نشاط أو فكرة أو لعبة دون توجيه خارجي، كما لو أنّ شيئًا خفيًّا بداخله يقوده نحو ما يخصّه دون غيره. هنا تتكوّن البذور الأولى لما يُعرف لاحقًا بالشغف أو الموهبة أو الرسالة الشخصية في الحياة.

ثالثًا: مثال واقعي لتجلي الصوت الداخلي

من الأمثلة الواقعية التي تُجسّد هذا المفهوم، تجربة الكاتبة التي تروي في طفولتها كيف طلبت منها معلمتها في الصف الثالث أن تُكوّن كلمات جديدة من حروف كلمة teacher (معلم). وقد أثارت تلك التجربة في الطفلة تساؤلًا فوريًا: «هل يمكن إعادة ترتيب حروف أي كلمة لتُشكّل كلمات أخرى؟». كان ذلك التساؤل البسيط، كما تقول، الشرارة التي فتحت أمامها بوابة الوعي بالكلمة، وسحر اللغة، وإمكانية توليد المعاني. ومن تلك اللحظة، ترسّخ لديها ارتباط وجداني وفكري باللغة، امتدّ لاحقًا ليصبح مسارها المهني والإبداعي. هذه التجربة الطفولية البسيطة تُعبّر بصدق عن ما قصده ماسلو بـ"الأصوات الداخلية الصاخبة"، تلك التي لا تُسمع بالآذان، بل تُحسّ بالعقل والقلب، وتُوجّه الإنسان نحو ما فُطر عليه.

رابعًا: فقدان البوصلة الداخلية مع الزمن

يشير ماسلو في أعماله، ولا سيما في كتابه "نحو علم نفس الوجود" (Toward a Psychology of Being) الصادر عام 1962، إلى أنّ الأطفال يعيشون في تناغم طبيعي مع ذواتهم الداخلية، ويملكون قدرة فطرية على تمييز ما يحبّونه وما ينفرون منه. لكن مع مرور الوقت، ونتيجة الضغط الاجتماعي والتربوي، يفقد أغلب الناس هذه البوصلة الداخلية. فالمدرسة، وفق ماسلو، تُعلّم الطفل الامتثال أكثر مما تُعلّمه الاكتشاف، والمجتمع يُقنعه بما "ينبغي" أن يفعله أكثر مما يُتيح له حرية ما "يرغب" في فعله. وهكذا، تتراجع الأصوات الداخلية شيئًا فشيئًا حتى يخفت صداها في زحمة الحياة اليومية، ليبقى الإنسان بعد البلوغ غريبًا عن نفسه، يبحث عن معنى في الخارج بينما المعنى كان يسكنه منذ البداية.

خامسًا: إسهامات علم النفس الإنساني في تأكيد الفكرة

لقد أكّد عدد من علماء النفس اللاحقين الفكرة نفسها بأساليب مختلفة. فالفيلسوف وعالم النفس كارل روجرز (Carl Rogers)، على سبيل المثال، رأى أنّ النمو النفسي السليم يتحقّق حين يتطابق "الذات الواقعية" مع "الذات المثالية"، أي عندما يعيش الإنسان وفق ما يمليه عليه وعيه الداخلي، لا وفق ما يُفرض عليه من الخارج. كما تحدّث في كتابه "أن تصبح شخصًا" (On Becoming a Person) عام 1961 عن أهمية الإنصات للذات بوصفه الطريق إلى الأصالة. أما التحليل الوجودي، ممثلًا بفيكتور فرانكل (Viktor Frankl) في كتابه "الإنسان يبحث عن معنى" (1946)، فقد ربط بين فقدان المعنى وفقدان الإصغاء إلى النداء الداخلي الذي يمنح الحياة غايتها.

سادسًا: الأصوات الداخلية كدلائل فطرية على الميول

الأصوات الداخلية دلائل فطرية على وجهة النفس نحو ما ينسجم مع تركيبها العميق. حين ينجذب طفل إلى الموسيقى، مثلًا، أو يُظهر شغفًا بالرسم، أو يميل إلى تفكيك الأجهزة ليفهم آلية عملها، فذلك انعكاسٌ لطبيعة خاصة تسعى إلى التعبير عن ذاتها. ومن هنا تأتي أهمية هذه العلامات المبكرة في تحديد مسار الحياة اللاحق. فكما تُظهر دراسات معهد "غالوب" للأبحاث (Gallup Research, 2018)، فإنّ الأفراد الذين يُمارسون وظائف تتناغم مع ميولهم المبكرة يحققون معدلات أعلى من الرضا والإبداع بنسبة تتجاوز 40% مقارنة بغيرهم. أي أنّ الطفل الذي يتبع صوته الداخلي يصبح راشدًا أكثر سعادة وإنتاجية.

سابعًا: نماذج من الشخصيات الملهمة

تُظهر السيرة الذاتية لعدد من الشخصيات الكبرى هذه الحقيقة بوضوح. فالرسام الإسباني بابلو بيكاسو (Pablo Picasso)، مثلًا، بدأ الرسم في سنّ مبكرة بإشراف والده الذي كان أستاذًا للفنون، وكان يقضي ساعات طويلة منغمسًا في الألوان والأشكال حتى وصف نفسه لاحقًا قائلًا: «قضيت حياتي كلها أحاول أن أرسم مثل طفل». كذلك، عالمة الفيزياء ماري كوري (Marie Curie) - كما ذُكر في سيرتها - أُعجبت منذ طفولتها بالأدوات الزجاجية في مختبر والدها، وكان ذلك أول ارتباط بين شغفها الطفولي وعملها العلمي الذي منحها جائزة نوبل لاحقًا. إنّ ما يجمع بين هذه النماذج جميعها هو أنّ أصواتهم الداخلية لم تُخمد، بل ظلّت تهديهم رغم ضغوط الواقع.

ثامنًا: استعادة الصوت الداخلي في زمن الضوضاء

إنّ استعادة هذا الصوت في مرحلة الرشد تحتاج إلى جرأة على التوقّف والإصغاء. ففي زمن تتكاثر فيه الملهيات وتشتدّ الضوضاء الرقمية، يصبح من الصعب على الإنسان أن يسمع صوته الداخلي بوضوح. ومع ذلك، فإنّ لحظات الصمت والتأمل، والممارسات الروحية أو الفنية، تساعد في إعادة الاتصال بذلك العمق الإنساني الذي تحدّث عنه ماسلو. ومن التجارب الواقعية التي تؤكّد ذلك، تجربة الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو (Henry David Thoreau) الذي انسحب عام 1845 إلى غابة والدن قرب بوسطن ليعيش عامين في عزلة تأملية. في كتابه "والدن" (Walden, 1854) وصف تلك التجربة بأنها كانت "عودة إلى الذات"، حيث اكتشف أن الهدوء الداخلي يُعيد ترتيب أولويات الحياة ويُجدّد معناها.

تاسعًا: تحقيق الذات والانتماء إلى النفس

الإنصات للصوت الداخلي لا يعني الانفصال عن المجتمع، بل يعني أن تكون قرارات الفرد نابعة من وعي ذاتي لا من إملاءات خارجية. هذا ما يُسميه ماسلو في نظريته بـ"تحقيق الذات" (Self-Actualization)، أي الوصول إلى أقصى إمكانات النفس عبر ممارسة ما يتناغم مع طبيعتها. وقد أظهرت دراسة أجراها عالم النفس إدوارد ديسي (Edward Deci) عام 1975 في جامعة روتشستر أنّ الأشخاص الذين يُمارسون أعمالًا تتّسق مع دوافعهم الداخلية يتمتعون بمستويات أعلى من الدافعية المستمرة مقارنة بمن تحركهم الحوافز الخارجية كالمال أو المكانة. إذن، الصوت الداخلي شرط لتحقيق التوازن والرضا الوجودي.

عاشرًا: العودة إلى الذات كطريق للسعادة

تُشير تجارب الحياة اليومية إلى أنّ الإنسان حين يتجاهل هذا الصوت يفقد شيئًا من توازنه النفسي. كم من شخص تابع مسارًا دراسيًا استجابة لتوقعات العائلة، ثم شعر لاحقًا بأنه يعيش حياة لا تخصّه؟ وكم من آخر عاد بعد سنوات إلى هواية طفولية ليجد فيها راحته وسعادته؟ هذه الظاهرة رصدتها أبحاث علم النفس الإيجابي، حيث تبيّن أنّ ممارسة أنشطة مرتبطة بالميول الطفولية ترفع معدّل السعادة الذاتية بنسبة معتبرة (جامعة ستانفورد، 2019). ومن ثمّ، فإنّ العودة إلى تلك الأصوات القديمة ليست حنينًا، بل فعلًا علاجيًا واستردادًا للذات.

الحادي عشر: استعادة الشغف 

إنّ قاعدة "مارس اليوم شيئًا كنت تحب ممارسته في طفولتك" تحمل جوهر هذا المفهوم في بساطة نافذة. فهي دعوة عملية لإحياء الاتصال بما كان أصيلًا فينا قبل أن تُشكّله ضغوط الواقع. ربما يكون هذا الشيء الرسم، أو الكتابة، أو اللعب بالموسيقى، أو تأمّل الطبيعة. حين يُعيد الإنسان ممارسة ما كان يُحبّه في طفولته، يُعيد تنشيط المسارات العصبية ذاتها التي كانت ترتبط بالفرح والاكتشاف، كما أظهرت دراسات علم الأعصاب (جامعة هارفرد، 2020). هذه العملية وسيلة فعّالة لإعادة شحن الطاقة النفسية، وتجديد الإبداع، واستعادة الإحساس بالمعنى.

الثاني عشر: الصوت الداخلي كبوصلة للوجود

في الختام، يُمكن القول إنّ "الصوت الداخلي" هو البوصلة التي تمنح للحياة اتجاهًا ومعنى. وحين نفقده، نغدو كمن يسير في طريق مُعبّد لا يعرف إلى أين يؤدي. أما حين نُصغي إليه، فإنّ الطريق، مهما كان صعبًا، يغدو أكثر صدقًا وإشباعًا. ولذلك، فإنّ استعادة الأصوات الصاخبة التي سكنت فينا يومًا هي فعل وفاء للطفل الذي كنّاه، وللإنسان الذي نسعى أن نكونه. إنها عودة إلى الجذور الأولى، حيث يولد الشغف، وتنبت شرارة الوجود.


 
design رئيس التحرير: إبراهيم الخطيب 9613988416
تطوير وبرمجة: شركة التكنولوجيا المفتوحة
مشاهدات الزوار 1007015719
الموقع لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة فيه. من حق الزائر الكريم أن ينقل عن موقعنا ما يريد معزواً إليه.
موقع صيداويات © 2025 جميع الحقوق محفوظة