«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

مجموعات منها منتشرة حول العالم بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل
TT

«الإيثار الفعال»... لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط

ويليام ماكاسكيل
ويليام ماكاسكيل

تقبّل البشر بشكل أو بآخر حقيقة التفاوت الطّبقي بينهم، وانقسامهم إلى مجموعتين متباينتين كليّة: أولئك الذين يملكون، وهم الأقليّة، وبقيتنا ممن لا يملكون، وهم الأكثرية الساحقة. وعلى الرغم من تعدد النظريات التي توثق هذا التفاوت أو تفسره أو تنقده أو تحاول التجاوز عنه أو تتنبأ بمآلاته، فإن شيئاً لم يتغيّر على الواقع الماديّ المكرّس لهذا الانفصام في الحياة المعاصرة. فهناك فن راقٍ، وآخر شعبيّ، أزياء للأغنياء وأخرى للفقراء، مطاعم فاخرة وأخرى متواضعة، مساكن فخمة وأخرى تجاريّة، بل ثمّة طبّ للأثرياء وميسوري الحال، يقابله طبّ للعناية الصحية الأساسية، وتعليم في مدارس وجامعات النخب مقابل المدارس والجامعات العاديّة، وهكذا. على أن مساحة واحدة بقيت إلى وقت قريب عصيّة على هذه الثنائيّة المقيتة: الفلسفة. إذ إن علم «معرفة الحكمة» ومنذ بداياته الأولى في أروقة أثينا القديمة - فيما نعتقد - استطاع دائماً كسر كل فروق طبقيّة، حيث الانتماء الطبقي وحتى العرقي لا تعني شيئاً فور شروع المرء في تعاطي مسائل المعنى وتعريف الغايات وطبيعة الوجود، وحيث أمكن لكل ذي عقل، بصرف النظر عن عدد دراهمه، الانتفاع من أثمارها طيبة يانعة إن هو أراد، فيأخذ منها ما يقيم أوده، ويهدأ من روعه، وفق فهمه، وحاجته ومعاشه.

توبي أورد

لكن ليس بعد الآن، إذ ثمّة مدرسة جديدة في الممارسة الفلسفيّة في البلاد الأنجلوساكسونيّة، تدعى «الإيثار الفعّال» تبدو معنيّة بشكل أساسي بمواجهة استحقاقات وهموم طبقة بحد ذاتها دون أخرى، فتبحث مثلاً في طرائق لتعظيم نتائج العطاء الخيري للأثرياء والمقتدرين، إذ يمكن بترشيد قرارات توظيف الموارد في جمعية خيرية مثلاً إفادة ألف شخص بدلاً من الاكتفاء بمساعدة مائة، كما يمكن عبر النظر فلسفيّاً في الأولويات العثور على ثغرات في الجهود الحالية للجهات الفاعلة، وإعادة توجيه الموارد للتأثير إيجابياً على أكبر عدد من البشر، وقضاياهم المهملة بشكل غير عادل.

بالطبع، فإن التاريخ عرف تجارب لشركات ومؤسسات حكمتها نظرة روحيّة أو فلسفيّة محددّة كما في أيّام التجار المسلمين في شرقي آسيا، وأيضاً الكويكرز في بريطانيا في القرن السابع عشر، كما البرجوازيين الصاعدين الذين فقدوا مرجعيّة الإيمان المسيحيّ في العصر الفيكتوري فتبنوا النظريّة الأخلاقيّة النفعيّة لجيريمي بنثام الداعية إلى تبني معيار «القيام بما قد يجلب أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من النّاس». لكن العمل الرأسمالي بشكله المعاصر يميل إلى أن تكون مجالس الإدارات والأجهزة التنفيذية خالية من الأيديولوجيا، وتعمل على مزيج من البراغماتية والانتهازية والأنانية وتعظيم الرّبح بوصفه قيمة عليا، وهو ما ترك فراغاً روحيّاً في منطق تبرير السلوك المجتمعي لمصالح المال والأعمال وهو ما أتت فلسفة «الإيثار الفعّال» لتملأه: منهجيّة عصرانية في التّعامل مع قضايا العالم ليست ذات مضمون أيديولوجيّ صريح، ولكنها أقرب إلى طريقة تفكير نفعيّة نخبوية تستهدف منح القادرين على العطاء الفرصة لتعظيم نتائج عملهم عند مدّهم يد العون للآخرين، وذلك من خلال تطبيق قوانين «إيثار» معينة.

لقد بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب، وهما ويليام ماكاسكيل وتوبي أورد، اللذان أصدرا عدداً من الكتب حول منطلقاتها وأهدافها منها «شفا الهاوية» و«عمل الخير بشكل أفضل»، قبل أن تجد لها خلال أقل من عقد واحد أصداء في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء عبر العالم الأنجلوسكسوني، ولتجد بين مشاهير العالم ونجوم شركاته جمهوراً وفيّاً. وتوجد الآن المئات من مجموعات «الإيثار الفعّال» المحليّة حول العالم، بما في ذلك في عدد من أهم الجامعات، ويشارك الآلاف منهم بانتظام في منتديات للحركة عبر الإنترنت، وينضمون إلى مؤتمرات يتم تمويلها بمئات الملايين من الدّولارات التي تتدفق من جيوب مليارديرات وادي السيليكون يؤمنون بهذه النظريّة.

وقد قفزت «الإيثار الفعّال» إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية نهاية العام الماضي عندما تردد اسما اثنين من الأسماء المعروفة في فضائها: سام بانكمان فرايد الذي (أُدين بالاحتيال لتحويل أموال العملاء من بورصة العملات المشفرة FTX لمصلحة شركته)، وسام ألتمان الذي بعد أسابيع قليلة من حكاية فرايد، تابع العالم كذلك دراما الإطاحة به ومن ثم العودة المفاجئة بصفته رئيساً تنفيذياً لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح (مبتكرة التشات جي بي تي). ولا شكّ أن الحكايتين انسحبتا بشكل أو بآخر على مصداقيّة «الإيثار الفعّال» إذ كان سام بانكمان فريد - كما معظم قادة شركته (ألميدا) - من أتباع هذه الفلسفة ومن المانحين الرئيسيين لنشاطاتها، وعلى علاقة وثيقة بالفيلسوف ويليام ماكاسكيل – أحد المؤسسين لها إلى جانب الفيلسوف توبي أورد - كما أن كل تغطية إعلاميّة بشأن سام ألتمان أصبحت تجري في خلفيّة الجدل الفلسفي حول إذا ما كانت المصالح التجارية ينبغي أن تحدد وتيرة واتجاه العمل على تطوير الذّكاء الاصطناعي أو أن ذلك يأتي فحسب بعد اعتبارات سلامة ورفاه البشر.

يقول ماكاسكيل وأورد إن مصدر إلهامهما في تأسيس فلسفة «الإيثار الفعّال» جاء من مقالة الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر الشهيرة من عام 1972، التي تدعو لتوسيع دائرة المرء الأخلاقية في التعامل مع المعاناة والرفاهية في كل مكان على القدر نفسه من الأهمية، وأن يكون معيار الخيار الفردي أخلاقيّاً التسبب في مزيد من الرّفاهية، وبالمعاناة الأقل للمجموع. ومع أن كثيرين عدّوا هذه الفلسفة الصارمة نوعاً من الاختزال الحالم، فإنّها مثّلت للشبان المنحدرين من عائلات ثريّة أفيوناً جديداً، حيث يمكنهم تذوّق مشاعر التّفوق الأخلاقي من خلال التخلّي عن بعض التّرف، والتفكير بأنهم يساعدون الفقراء حول العالم!

تدرّب ماكاسكيل وأورد على يد اثنين من أهم فلاسفة الأخلاق المعاصرين: جون بروم (والراحل) ديريك بارفيت اللذين تمحورت حياتهما المهنية حول البحث في نقاط الانطلاق الأخلاقية للتفكير برفاه ومعاناة الأشخاص البعيدين أو المستقبليين. وقد أشرف بارفيت على رسالة دكتوراه أورد، وبروم على كل من أورد وماكاسكيل. في غضون بضع سنوات من تخرجهما، أسس الفيلسوفان الشابان منظمة أطلقا عليها اسماً يعادل بالعربيّة (الجود بالموجود) التي جمعت عشرة آلاف من الأثرياء تعهد كل منهم بالتبرع بما نسبته 10 في المائة من دخله للأعمال الخيرية التي يمكنها أن تثبت التأثير الإيجابي لمشاريعها على أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبعدها أسسا خدمة المشورة المهنيّة (ثمانون ألف ساعة) التي كانت تساعد الطلاب على اختيار مهن من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الخير للآخرين، وتعظيم تأثير العطاء الفرديّ الممكن. ومن هذه البذور تأسس مركز المشاريع الفعالة الذي تولى إدارة أموال تبرعات الأثرياء لمصلحة مشاريع خيرية مجتمعيّة، إلى جانب الإنفاق على المؤتمرات والمنتديات عبر الإنترنت.

بدأت «الإيثار الفعّال» في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة على يد اثنين من الفلاسفة الشباب ووجدت لها صدى خلال أقل من عقد في أكاديميات الأبراج العاجيّة، وشركات وادي السيليكون، ونوادي الأثرياء ومشاهير العالم

وفي موازاة أنشطة أكسفورد، تبنى رواد أعمال على الجانب الآخر من الأطلسي الأفكار ذاتها، فأطلقوا مؤسسات تسعى إلى تحديد أكثر الجمعيات الخيريّة تأثيراً وتوجيه أموال المانحين الأثرياء نحوها. ومع أنّ هذه الأفكار تبدو بديهيّة ولا تحتاج إلى كثير من الجدل، فإنّها أثبتت قدرتها على إثارة الحماس بين شبّان الطبقات الباذخة الذين منحت فلسفة «الإيثار الفعّال» بعضهم هدفاً ومعنى لحياتهم. فما السرّ في ذلك؟

يقول مراقبون إن الأمر قد يكون مرتبطاً بقدرة الإنترنت على نشر الأفكار بطرق غير مسبوقة، لكن العديد من الفلسفات تمتلك فرصة الانتشار ذاتها ما يدعم فرضية أن الأمر يتعلّق بالتّحديات الفريدة التي يواجهها عالم جيل شبان الطبقة المخمليّة: من الأزمة المالية العالمية، وما لحقها من عقد سياسات التقشف، إلى «كوفيد 19»، والتهديدات المتكررة حول تحولات المناخ، فتبدو فلسفة «الإيثار الفعّال» استجابة فاعلة، محمّلة بالأمل، يمكن مخاطبة الجانب التقني فيها بحسابات عقلانية تناسب منطق الأجيال التي تدرس في جامعات النخبة البريطانية والأميركيّة.

لكن الواقع أن «الإيثار الفعّال» رغم شكلها الإيجابي الخارجيّ، تكشف عن قصور نظري مرعب: فالعمل الخيري الذي يقوم به أتباعها يعطي غطاء للمنظومة التي تضمن بقاء تدفق الثروات في يد طبقتهم ذاتها، ولا يمس بحال بأساسيات النّظام السياسيّ الذي يمكنهم من امتلاك الترف للقلق حول كفاءة تبرعهم بالأموال. إنّها بالفعل أقرب إلى لعبة فلسفيّة للأثرياء فقط.


مقالات ذات صلة

«نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

كتب «نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

«نظريّةُ كل واحد»... الديناميات الأساسية للسلوك البشري

في الوقت الذي يؤكّد فيه المؤلف على الأهمية المركزية لمفهوم الطاقة فإنّه لا يتغافل عن التصريح بأنّ كتابه ليس كتاباً مخصوصاً عن الطاقة بذاتها.

لطفية الدليمي (بغداد)
كتب ليدي إيفلين كوبولد

«من لندن إلى مكة»... أول رحلة حج لامرأة بريطانية

تفاصيل ومشاعر فياضة بالروحانية تصف بها الكاتبة البريطانية رحلتها للحج التي أصرت على خوضها بعد أن أشهرت إسلامها في أربعينات القرن الماضي لتكون بذاك أول امرأة أوروبية تقدم على هذه الخطوة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «درب زبيدة»... أقدم طريق للحج بين العراق والسعودية

«درب زبيدة»... أقدم طريق للحج بين العراق والسعودية

يقدم هذا الكتاب، تعريفاً لطريق الحج البري القديم بين العراق والسعودية وكيفية اكتشافه وما لحقه من إهمال ونسيان، ويوضح جهود الحكومتين العراقية والسعودية في ثلاثينات القرن العشرين بالسعي إلى إحيائه وتجديد محطاته لأهميته التراثية.

علاء المفرجي (بغداد)
كتب «أطروحات في قلب رؤية 2030»

«أطروحات في قلب رؤية 2030»

يُوثِّق الكتاب أثر رؤية السعودية 2030 في تجاوز أكثر من 15 تحدياً تنموياً مرتبطة بقطاعات مختلفة في المجتمع، من بينها صحية وتأمينية ومالية كانت تواجهها قبل إطلاق رؤية 2030؛ وكيف تم تجاوزها بعد إطلاقها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون القراءة كقصة عاطفية

القراءة كقصة عاطفية

يروي بروست في هذا الكتاب عن محبته للقراءة وطقوسه التي تصاحبه في ذلك وكأنه يروي عن طفولته فيتذكر نفسه وهو الصبي الذي يقتنص ويتحيّن الفرص للاختلاء بكتاب جديد ليغنم هذه المتعة

منى أبو النصر (القاهرة)

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير
TT

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

«أخبار النِّساء» لأُسامة بن مُنقِذ.. كتاب فريد جمع بين التاريخ والأدب والسِّير

صدر حديثاً (2024) عن «مركز الملك فيصل للبحوث والدّراسات الإسلاميَّة»، كتاب «أخبار النِّساء» للأمير مجد الدولة أُسامة بن مُنِقذ الشَّيزريّ الكنانيّ (488 - 584هـ)، ضمن سلسة تحقيق التُّراث (52)، من مخطوطات المركز المحققة. عدت مخطوطة الكتاب نسخة فريدة منها بالعالم، مِن مواضيعه: كتاب الأُمهات، كتاب الزَّوجات، كتاب البنات، والأخوات، والجواري، كتاب مراثي النِّساء، كتاب أوصاف النِّساء، كتاب الخطبة والتَّزويج والتَّطليق، كتاب أحكام النِّساء. بلغ عدد صفحات المطبوع (700) صفحة متضمنة الفهارس المفصلة.

كذلك كان «أخبار النِّساء» فريداً في منهجه ومحتوياته، جمع بين التاريخ، والأدب، والسِّير لأشهر النِّساء، جاء زاخراً بالمنثور والمنظوم، والأحكام الفقهيّة؛ فقد صُنفت كتبٌ غير قليلة في أحوال النِّساء، رصدتها مقدمة التّحقيق، لكن ليس لأيٍّ منها الشُّموليّة التي امتاز بها كتاب ابن مُنقذ، وهو أحد أبرز أمراء الحرب مع الإفرنج وما عُرف بالحروب الصّليبيّة، وكان كتابه «الاعتبار» سيرة ذاتية لنفسه، وربّما عُدَّ ابن منقذ أولَ من أهتم بكتابة سيرته بقلمه، وبعده ابن خلدون (ت 808هـ)، وكتابه «التّعريف».

التقى السُّلطان صلاح الدِّين الأيوبيّ (ت 589هـ)، متأخراً، فلم يتمكن من مرافقته في الحروب التي خاضها الأيوبيّ، وذلك لكبر سنه، وقد تجاوز الثمانين، حين التقاه، وتُوفي مناهزاً السادسة والتسعين. كان صلاح الدِّين شغوفاً بشعر ابن منقذ، فضَّل ديوانه على دواوين بقية شعراء تلك الفترة، جمعه له نجله مُرْهف بن أُسامة بن منقذ، وكانت له حظوة عنده، بعد وفاة والده (ابن شامة، كتاب الرَّوضتين في أخبار الدَّولتين النُّوريّة والصّلاحيَّة). كان والد وإخوة أسامة شعراء وأدباء، وكذلك ولده أبو الفوارس مُرْهف (ت 613هـ) كان شاعراً وكاتباً وجامعاً للكتب، وحصل أن اشترى منه ياقوت الحموي (ت 622هـ) مجموعة كتب (الحمويّ، معجم الأدباء). لأبي الفوارس شرح لديوان المتنبي، قُدمت مخطوطته أطروحة في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنورة ، وهي من محفوظات مكتبة الملك فهد الوطنيّة بالرياض.

على الرّغم مِن انشغاله في الحروب، لكن ابن منقذ كان غزير التأليف، فمن غير «أخبار النّساء»، وكتاب «الاعتبار»، له عشرات الكتب مِن المنشورات والمفقودات، و«أخبار النساء» كان مفقوداً، حتّى عُثر عليه بين أكوام مِن الأوراق المخطوطة. كان للمؤرخ تقي الدّين المقريزي (ت 845هـ) فضله في جمع شتات مصنفات ابن منقذ؛ في قائمة ضمنها كتابه «المقتفى الكبير»، شملت أسماء كتبه وعناوين مواضيعها، ما وصَلَنا منها، وما ظلّ مفقوداً، وبينها «أخبار النّساء»، وما ذكره المقريزي عن محتويات الكتاب، جاء مطابقاً لما ورد في المخطوط.

لكنّ باباً مِن أبواب الكتاب، والخاص بالجواري، كان ضائعاً، فالمخطوط فُقدت منه أوراق غير قليلة، من بدايته ونهايته، غير أنَّ جلال الدّين السِّيوطيّ (ت 911هـ) اقتبسه في كتابه «المستطرف مِن أخبار الجواريّ»، ووثّق ذلك بالقول: «قال أُسامة بن مرشد في (أخبار النِّساء)». فمِن غير الوارد أنْ يُصنف ابن منقذ كتاباً في النّساء، وبهذه الشّمولية، ويغفل أخبار الجواريّ، بينما الكتب التي اقتبس منها كانت ملأى بأخبارهنَّ. يمكن إضافة ذلك إلى ما ذكرناه في مقال سابق، على صفحات «الشّرق الأوسط» «خزانة التُّراث.. كُتب تنقذ كُتباً مِن الضِّياع».

إضافة إلى شهرة أُسامة بن منقذ، التي سارت بها البغال الشُّهب مثلما يُقال؛ إلا أنّ اختياره الكتابة في «أخبار النّساء» يلفت النّظر، فقرون ولا تُعرف فهارس خزائن المخطوطات، إلا كتاب «أخبار النّساء» لأبي فرج عبد الرّحمن بن الجوزيّ (ت 597هـ)، الذي عاصر ابن منقذ، مع وجود الأول ببغداد، والأخير بين مصر والشّام، وقد نُسب كتاب ابن الجوزيّ هذا خطأً وتوهماً إلى الفقيه شمس الدين بن القيم الجوزيَّة (ت 751هـ)، بل هناك مَن ظنّه جزءاً من كتاب ابن منقذ، وقد حوى أوصاف النساء، وما يتعلق منهن بالزواج، والأشعار فيهنَّ، وما يتعلق بالغيرة وأخلاقهنَّ، هذا ما أشار إليه الباحث محمد عزيز شمس متوهماً، عندما قال: «هذا كتاب (أخبار النساء) لابن منقذ» (مجلة المجمع العلميّ العربي / العدد 2 السنة 1990). قال ذلك، ولم يطّلع على كتاب «أخبار النساء» لابن منقذ، وكان معروفاً بالاسم فقط، وإلا فالكتابان مختلفان، كتاب ابن الجوزي عنوانه الأصل «أحكام النساء»، واقتصرت موضوعاته على التعاليم والوصايا؛ من الحلال والحرام في معاملتهنَّ، وهو ما يناسب ابن الجوزي الفقيه، لا ابن منقذ الأديب والشَّاعر.

صُنفت، مثلما ذكرنا، مئات الكتب في أحوال النِّساء، وكان أغلبها بأقلام الرّجال، حتّى فترة متأخرة، بدأت النّساء الكتابة عن بنات جنسهنَّ، وربّما كان السّباقَ إلى التصنيف في النساء صاحبُ «كتاب بغداد» الشهير، أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور الكاتب (ت 280هـ)؛ «بلاغات النساء».

لكنَّ كلَّ ما صُنف وظهر مطبوعاً، في أحوال النِّساء، لا يجاري كتاب ابن المنقذ، الذي أرّخ للمرأة الأمّ والأخت والبنت والزوجة، وبالأسماء، وفي أزمان مختلفة، ومن غير ما نقله ابن منقذ مِن الكتب التي سبقته، أضاف حوادث عاشها. عندما يأتي على باب الأمهات، أو «كتاب الأمهات»، يتفرع إلى بركاتهنَّ، وخلاف الأبناء معهنَّ، وما تعرضنَّ إليه مِن مِحن، وأخبار الأبناء معهنَّ، وأخبار الآباء مع البنات، وهكذا كان منهجه مع كلّ فئة يتعرض لها، دون إغفال ما يتعلق بالجدات والخالات.

على ما يبدو، ظل الكتاب تتداوله الأيدي حتَّى القرن العاشر الهجري، فمثلما تقدَّم، اقتبس منه جلال الدّين السّيوطي، وهو من أعلام القرنين العاشر والحادي عشر، وبسبب عدم وصول المختصين بفهرسة المخطوطات إليه، فكان بيد أفراد لم يعرفوا قيمته، ولا موضوعه، لا تجد أثراً له عند كبار المفهرسين، مثل كارل بروكلمان (ت 1956) وكتابه «تاريخ الأدب العربيّ»، حتى وقع بيد المحقق والمهتم بالمخطوطات العربيَّة، الباكستاني الدكتور أحمد خان، الذي اشتراه مع مجموعة من الأوراق، وظل يستفسر عن هويته، فاكتشف أنه «أخبار النساء» لابن منقذ، وقد راسلتُ أحمد خان، وعرفتُ منه قصة وصول الكتاب إليه، ومنه إلى خزانة المخطوطات في «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات».

هذا، ولكلِّ كتاب قصته، في الضياع والعثور عليه، والأوهام والحقائق التي تدور حول هذا الكتاب أو ذلك، فلسنواتٍ كان المحقق مصطفى جواد يعتقد أن كتابَ «الحوادث» هو كتاب «الحوادث الجامعة والتجارب النّافعة في المائة السَّابعة» للمؤرخ ابن الفوطي (ت 723هـ)، وكان مؤلفه الأقرب لواقعة اجتياح بغداد مِن قبل المغول، لكن بعد المقابلة بين أسلوب الكتاب وكتب الفوطي اكتشف جواد نفسه، ما حققه ونشره (1932)، ليس لابن الفوطي، فأعيد نشره، بعد حين، بعنوان «كتاب الحوادث» بتوقيع: مؤلف مجهول.

غير أنَّ «أخبار النِّساء»، إضافة إلى اعتراف ابن منقذ به، وعدِّه ضمن قائمة كتبه، وما نُقل عنه مِن نصوص، فأسلوبه أسلوب بقية كتب ابن منقذ، ولولا الصّدفة أن يعرض أحد باعة الأوراق القديمة، على مالكه الأول، لربّما راح مستعملاً مِن قِبل البقالين، وكمْ مِن كتب تلفت في الدكاكين للجهل بها، فكان يُصيب الكتب، التي ضمّتها خزائن مكتبات الملوك والوزراء الأقدمين، ما يصيبهم مِن عوادي الزّمان.

حوى الكتاب مادة غزيرة، يستفيد منها المؤرخ الاجتماعي، ومؤرخ الأدب، وما يتعلق بالفقه ومعاملة النّساء، وتراه يرفع شأن النّساء، على خلاف كثير مِن المصنفين الذين تناولوا أحوالهنَّ، إلى جانب ما امتاز به الكتاب من أسلوب المصنف الرشيق في الكتابة، ومادته الثّرية.

لم نقف، بسبب ضياع الصفحات الأولى والأخيرة مِن الكتاب، على دافع ابن منقذ في تصنيف الكتاب، وهو الأديب والشّاعر والمحارب، وقد اعتاد، في مقدمات كتبه، ذِكر دافع التصنيف، فنجده مثلاً ذكر سبب تصنيفه كتابه «المنازل والدّيار»، قائلاً: «ما دعاني إلى جمع هذا الكتاب، ما نال بلادي وأوطاني مِن الخراب، فإن الزَّمان جرَّ عليها ذَيله، وصرف إلى تعفيتها حوله وحِيله، فأصبحت كأنْ لم تَغْنَ بالأمس، مُوحشة العرصات بعد الأُنس، قد دثر عمرانها، وهلك سُكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرّات بها حسراتٍ وهموماً، ولقد وقفتُ بعد ما أصابها مِن الزَّلازل ما أصابها، وهي أولُ أرض مسَّ جلدي تُرابها، فما عرفتُ داري، ولا دُور والدي وإخوتي...» (المنازل والدِّيار، دمشق 1965). هذا، وكان تصنيفه «أخبار النِّساء» قد سبق أهم كتبه، كـ«الاعتبار»، و«المنازل والدِّيار»، و«التّاريخ البدريّ»، ويقصد بدر الكبرى (2هـ)، وهذا واضح مِن تضمين هذه الكتب نصوصاً مِن «أخبار النّساء».

تضمّن كتاب «أخبار النّساء» لابن منقذ، بعد أخبار السيدات الأُول؛ مِن حواء، وأمّ النّبي موسى، والسيدة مريم، وزوجة النبي أيوب، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وبلقيس، والسيدة خديجة الكبرى، وغيرهنَّ، ثم فصل أحوال النِّساء، كأمهات وزوجات وبنات وأخوات، وصفات النساء، بذكر أوصاف الأسنان، والعيون، والأنوف، والحواجب، والأرداف، والمعاصم، والشَّعر، مع الأقوال والأشعار.

عموماً، يُعدّ الكتاب معجماً لكلّ ما يتعلق بالنساء، وقد يكون المفقود مِن أوراقه فيه الكثير، وكان فصل الجواري منه بحكم المفقود، لولا أنَّ السّيوطي حفظه في كتابه «المستطرف مِن أخبار الجواريّ»، على أمل إلحاقه في طبعة جديدة من الكتاب، وإتمام الضائع مِن المظانّ التي أخذ عنها ابن منقذ.