صورة تعبيرية المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

تعرض الاقتصاد العالمي في 2023 لابتلاء نادراً ما شهد له مثيلاً، فقد تكالبت عليه تحديات التضخم وأكثر السياسات النقدية تشديداً منذ عقود، زد على ذلك الاحتراب في أوروبا والشرق الأوسط، والأزمة العقارية المتفاقمة في الصين، وتعاظم التنافس بين واشنطن وبكين، وهو ما دفع الشركات لإعادة النظر في سلاسل الإمداد والأمن.

رغم هذه التحديات، استمرت مسيرة تعافي ما بعد الجائحة عالمياً. في الولايات المتحدة، خالف المستهلكون التوقعات فواصلوا الإنفاق، وتخلى كثير من الاقتصاديين عن سيناريوهاتهم السلبية ليتنبأوا بهبوط سلس يندر حدوثه. أما في الصين، فقط ساعد قادة البلاد ازدهار قطاع المركبات الكهربائية إلى جانب دفعة قوية من التحفيز المالي، على الالتزام بأهداف النمو. كما عوضت الهند، التي تُعقد عليها آمال اقتصاد العالم الجديدة، قدراً من التراخي.

يتوقع صندوق النقد الدولي نمواً في اقتصاد العالم بنحو 2.9% في 2024، أي أقل بقليل من العام الماضي. في ضوء اندلاع حربين وإجراء انتخابات في نحو 40 دولة، فإن التطورات السياسية ستُشكّل مسار الأحداث هذا العام، خصوصاً مع توجه دونالد ترمب للترشح للرئاسة مجدداً. لكن ثمّة توترات اقتصادية رئيسية قد تقلب هذه النظرة المستقبلية الحميدة رأساً على عقب.

1. هل يستسلم المستهلك الأميركي؟

بعد نمو قوي في 2023، تشير التوقعات إلى أن الاقتصاد الأميركي سيعود للواقعية خلال الأشهر الـ12 المقبلة. سواء أتى ذلك على هيئة ركود أو هبوط سلس، فذلك سيعتمد جزئياً على مدى صمود سوق العمل. لم تتأثر هذه السوق حتى الآن برفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة تكراراً، لكن هذا العام قد يشهد نقطة تحول في ذلك، رغم أن صنّاع السياسات أشاروا إلى اكتفاء من التشديد. سيؤثر ارتفاع البطالة على إنفاق المستهلكين، الذي يمثل نحو ثلثي الناتج الاقتصادي في الولايات المتحدة. تشير أحدث توقعات الاحتياطي الفيدرالي إلى ارتفاع معدل البطالة إلى 4.1% بنهاية العام. وتمثل طلبات إعانة البطالة، التي تُنشر أسبوعياً، مؤشراً قوياً على ضعف سوق العمل، لذا فهي جديرة بالمتابعة.

2. هل تتمكن بكين من ضبط أزمة الإسكان؟

يواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم تباطؤاً على مدى سنوات سببت جزءاً منه حملة الرئيس الصيني شي جين بينغ على المضاربة في سوق العقارات. والمطوّرون مثقلون بمحافظ ضخمة من المباني غير المكتملة، التي تضم شققاً بيعت لكن بناءها لم ينته.

تشير تقديرات شركة "نومورا سيكيوريتيز" (Nomura Securities) إلى بيع نحو 20 مليون وحدة سكنية إما تأخر بناؤها أو لم يبدأ بعد. وبات صبر عدد أكبر من الشراة الذين ينتظرون إكمال شققهم الجديدة ينفد، ما قد يجعل من الأزمة تهديداً لاستقرار المجتمع. تعهد كبار المسؤولين بالحيلولة دون سلسلة تخلف عن الديون من جانب المطوّرين. من شأن هذا أن يكون كارثةً تطغى على القطاع المصرفي وقد تدفع بالصين نحو عقد من نمو هزيل على غرار ما شهدته اليابان سابقاً. قد يكون 2024 هو العام الذي يتحول فيه التدخل البطيء للإجراءات الحكومية إلى عملية إنقاذ متكاملة الأركان.

3. تخلُّف أداء اقتصاد الدول الأوروبية

كان الاقتصاد الألماني هو الأسوأ أداءً بين الاقتصادات الكبرى في 2023، إذ أدى ارتفاع أسعار الطاقة وتشديد السياسة النقدية، بالتزامن مع ضعف الطلب العالمي على صادرات ألمانيا، لانكماش طفيف في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023. كما أن هنالك مشاكل كثيرة مع بدء 2024، ومنها الحرب المستمرة في أوكرانيا، وصناعة السيارات التي تواجه منافسة شديدة من المركبات الكهربائية الصينية والقيود الشديدة على الإنفاق الحكومي. على قطاع التصنيع الألماني، وهو الأكبر في العالم، أن يتعامل مع تحول مكلف ومحفوف بمخاطر سياسية إلى بدائل أخرى للطاقة بعدما فقد إمكانية الحصول على غاز رخيص عبر الأنابيب من روسيا، بالإضافة إلى إعادة ترتيب سلاسل الإمداد رداً على الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لكبح الصين.

عليكم بمتابعة مؤشر "إيفو إنستيتيوت" (Ifo Institute) لتوقعات أنشطة الأعمال لتحري ما إذا كان الوضع يتحسن أم يتدهور.

4. خروج اليابان المحفوف بالمخاطر من عهد الفائدة السلبية

تشارف تجربة البلاد التي امتدت لعقود في السياسات النقدية غير التقليدية على أن تسطر نهاية آخر فصولها. ساعدت الفجوة المتسعة بين عوائد السندات اليابانية وعوائد سندات الحكومة الأميركية على خفض الين الياباني إلى أدنى مستوياته منذ أوائل التسعينيات، فارتفعت أسعار الوقود والغذاء المستوردين وتآكلت القوة الشرائية. في ضوء ارتفاع التضخم فوق مستوى بنك اليابان المستهدف البالغ 2% لأكثر من عام ونصف، تشير توقعات على نطاق واسع إلى أن محافظ البنك المركزي كازو أويدا سيتخلى عن آخر سعر فائدة سلبي متبقٍ في العالم فيما يتحول بعيداً عن إطار العمل المعتمد على التحكم في منحنى العائد، الذي ورثه عن سلفه.

سيتحتم على أويدا أن يمضي قدماً بحذر، فقد استثمرت صناديق التقاعد وشركات التأمين والمصارف وحتى المستثمرين غير المخضرمين أموالهم على مدى جيل بأكمله في أصول بالخارج لتحقيق عوائد، ما جعل اليابان كبرى الدول الدائنة في العالم. إذا بدأت سندات الحكومة اليابانية تقدم عوائد أفضل، فقد تعود للبلاد تريليونات بالعملة المحلية، فتسبب اضطرابات قوية في أسواق المال العالمية. يرى أويدا أن التحرك بسرعة أكبر من اللازم يهدد بتبديد العائد المطلوب منذ فترة طويلة، وهو ارتفاع الأسعار المستدام. أما التحرك بسرعة أبطأ من اللازم، فقد يشجع الأسواق على اختبار عزم بنك اليابان الحفاظ على مستويات العوائد موضع اختبار، ما يهدد بتهاوي قيمة الين.

5. هل تفي الهند بوعدها؟

فيما تستقر الصين على مسار نمو أبطأ، يتطلع الاقتصاديون لأن تحتل الهند في نهاية المطاف موقع الصدارة لتكون محرك النمو العالمي الجديد. المهمة التي تقع على عاتق البلاد ثقيلة، كما أن السياسة ستزيد من صعوبة التحدي في ضوء الانتخابات التي سيخوضها رئيس الوزراء ناريندرا مودي في أبريل أو مايو.

تشير توقعات اقتصاديي "غولدمان ساكس" إلى أن زيادة الإنفاق الحكومي ستكون المحرك الرئيسي للنمو مع بدء العملية الانتخابية، وسيحل استثمار القطاع الخاص محلها في النصف الثاني من العام. لكن فيما تنمو الهند بوتيرة أسرع من أي اقتصاد رئيسي آخر تقريباً، فقد ارتفع معدل البطالة إلى أكثر من 10% في أكتوبر، وهو الأعلى خلال عامين، وفقاً لمركز مراقبة الاقتصاد الهندي. بالإضافة لذلك، فإن معدل مشاركة النساء في سوق العمل عالق دون مستوى 60%.

قال اقتصاديون في "إتش إس بي سي هولدنغز" (HSBC Holdings) إنه حتى لو تسارع النمو الاقتصادي إلى 7.5% سنوياً على مدى العقد المقبل، فستتوفر نحو 45 مليون وظيفة من أصل 70 مليون وظيفة مطلوبة لكي تتماشى مع تعداد الهند السكاني المتنامي، وسيترك ذلك 25 مليون شخص بلا عمل.