غيا عرابي... لبنانية من ذوي الاحتياجات تبرع في الحلويات

غيا عرابي... لبنانية من ذوي الاحتياجات تبرع في الحلويات

29 ابريل 2023
محلّ الحلويات الأهم والأحب إلى قلب غيا (حسين بيضون)
+ الخط -

بشغف وحماس كبيرين، تفتح غيا عرابي باب محلّها الزهريّ الصغير في منطقة الهلالية بمدينة صيدا جنوب لبنان. تحمل حقيبتها، وتلقي التحية على الموظفين، ثم تنطلق في أداء مهمات نهارها الطويل. غيا، ابنة السادسة والعشرين عاماً التي تعاني منذ صغرها من تأخر في النمو الفكري والحركي، لا تتوقّف عن الحركة ولا تفارق البسمة وجهها. تتنقّل كالفراشة في أرجاء محلّها المتخصّص في إعداد الكيك وأصناف أخرى من الحلويات، وتعبّر بطريقتها الخاصّة عمّا يختلجها من مشاعر وأحاسيس في مكان تحب أن تتواجد فيه، ويشبه شخصيتها التي أرادت عائلتها دائماً أن تتطور وتتفاعل أكثر مع محيطها لتعزيز فرصها في تخطي عقبات وضعها الخاص.
أمام عدسة الكاميرا تبتسم غيا وتعبّر بكلمات وجيزة عن عشقها لمحلّها الذي يحمل اسمها (Ghia’s Cakery) وتقول لـ"العربي الجديد": "أتواجد كلّ يوم في المحل، من الصباح حتى المساء، أبقى مع لين (إحدى الموظّفات)، وأنا أحبّ أن أعمل في صنع الحلوى والبيع، وأساعد أمّي والموظّفين في البحث عن أفكار لتزيين الحلوى بحسب المناسبات التي تختلف من أعياد الميلاد الشخصية إلى عيد الأم وعيد العشّاق وعيد المعلّم وشهر رمضان وعيد الفطر والميلاد المجيد ورأس السنة وغيرها".
ولأن غيا تعشق الرقص والأغاني والموسيقى العربية والأجنبية، تواظب على الاستماع لفنّانيها المفضّلين، بينهم إليسا ووائل كفوري ونانسي عجرم. ومن هواياتها المحببة أيضاً لعب كرة السلة وتركيب أحجية الصور المقطّعة (Puzzle)، ومشاهدة قنوات "يوتيوب"، وهي تهتم بألعاب وتطبيقات الهاتف الخليوي ووسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما "إنستغرام" و"تيك توك"، وكذلك التسوّق وتحب العديد من المأكولات والحلويات.

لم نستسلم يوماً

ربما كانت غيا، غاية والدتها وسيمة البابا وهدفها الأسمى، كما يوحي اسمها في معجم لسان العرب. فمنذ أن عرفت الحالة الصحية لابنتها حتى باشرت رحلة علاجها، وتابعت تطوراتها بعناية ورعاية كبيرة. ولم تترك الوالدة طبيباً أو معالجاً نفسياً أو متخصصاً في مجال النطق والعلاج الوظيفي وغيره إلا وطرقت بابه وقصدته، علّها تساهم في تعزيز النمو الفكري والعاطفي والحركي لغيا. 

الصورة
هدف عائلتها أن تعيش غيا بفرح وسعادة (حسين بيضون)
هدف عائلتها أن تعيش غيا في فرح وسعادة (حسين بيضون)

وتروي لـ"العربي الجديد" أنها كانت تعمل مديرة في أحد المصارف اللبنانية، قبل أن تضطرّ إلى تقديم استقالتها وتلتحق بزوجها إلى مكان عمله في السعودية، بسبب تحقيق رغبتها في جمع العائلة، خصوصاً أنّ غيا شديدة التعلّق بوالدها، وتقول: "تركت لبنان عام 2008 حين كانت غيا في الـ11 من العمر تقريباً، بعدما تأكّدتُ من وجود مدرسة متخصصة بذوي الاحتياجات الخاصة حيث يعمل زوجي، خصوصاً أنّ غيا كانت سعيدة في مدرستها في لبنان، حيث كانت انضمت إلى قسم متخصّص في التعامل مع حالتها، ما دفعني إلى التريّث في اتخاذ قرار السفر". 
تضيف: "تعذّبت في الفترة الأولى من وجودي في السعودية، لأنني لم أكن معتادة على ملازمة المنزل، كما عانيت من بعض حالات التنمّر وعدم تقبّل الآخرين الوضع الخاص لغيا، رغم أننا كنّا نعيش ضمن مجمّع سكني للأجانب. وقد حرصتُ على احتضانها ومرافقتها دائماً حتى تقبّلنا المحيطون بنا من كبار وصغار وضعها، وانخرطَتْ هي بدورها ضمن بيئتها الجديدة".
وتتذكر وسيمة أن ابنها طارق البالغ 23 عاماً كان يدافع عن شقيقته غيا حين كان في عمر 8 سنوات، "فهو كان يحتضنها ويواجه المتنمّرين، حتّى أنّ كثيرين تعرّفوا عليّ من خلال تصرفاته الجيدة".

وبهدف تمضية أوقات الفراغ في انتظار عودة غيا وطارق من المدرسة، ارتأت وسيمة حضور حصص متخصّصة في إعداد الكيك والحلويات، وتطبيقها في المنزل، قبل أن تبدأ ببيعها إلى أصحابها الذين يقطنون في المجمّع، وخصّصت الأرباح لصالح الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان، ما ساهم في تحفيز كثيرين على شراء حلوياتها. وتقول: "عدت إلى لبنان بهدف تأسيس مشروع خاص يفتح الآفاق أمام غيا ويشغل تفكيرها بشكل مناسب بعدما بلغت سن العشرين، فتعمدت تسجيلها في مهنيّة لذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تعلّمت أصول الطبخ والحلويات. وانطلقنا في أعمال المحلّ عام 2017، فانتاب غيا الحماس الكبير، وهو ما أردناه من المشروع، وباتت تأتي كل يوم بعد انتهاء دروسها في المهنيّة كي تساعدنا. ومع مرور الوقت أصبح المحلّ المكان الأهمّ والأحبّ إلى قلبها، تعشق تصميمه وزواياه ومفهومه الذي يشبهها فعلياً ويعبّر عن شخصيتها. وأسعدنا جداً أن غيا تواصل التفكير في المشروع وتتفقّده وتطمئنّ إلى حسن سير الأمور وفريق العمل الذي ترتبط بعلاقات وثيقة مع جميع أفراده، وتهتم بتوفير احتياجات سير العمل والنواقص وغيرها من التفاصيل. ويمكن القول إنّ هذا المحل مصدر سعادة فعلي لغيا اليوم".

الصورة
تتحلّى غيا بشخصيّة قويّة مثابرة (حسين بيضون)
تتحلّى غيا بشخصية قوية مثابرة (حسين بيضون)

سعادة غيا هي هدفنا الأول

وتخبر وسيمة أيضاً أنّ "غيا وُلدت سليمة، وخلال وجودها في الحضانة بدأت تظهر عليها علامات التأخّر في الحركة والاستيعاب والنطق، ثم أدركنا حقيقة حالتها حين دخلت المدرسة واتّضح حجم الهوّة بينها وبين أبناء جيلها، حتّى أنّها لم تكن قادرة على ملازمة الصف الذي بدا جلياً أنه لم يكن يشبهها. ثم شخّص أحد المتخصّصين حالة غيا حين كانت في الرابعة من العمر، وهو أبلغنا أنها تعاني من خلل في الخلايا وتشوّه خلقيّ يعيق قدرتها على التعبير عن نفسها، لكنّ المتابعة اليومية والعلاج المستمر ساهما في تحسين وضعها بشكل كبير، سواء على صعيد تعزيز قدرتها على الانتباه والتركيز، أو على صعيد الاعتماد على نفسها وتنظيم أمور حياتها اليومية، مثل ترتيب غرفتها وملابسها، وملاحظة أيّ تغييرٍ يحدث بشكل مناسب".

طلاب وشباب
التحديثات الحية

ورغم أنّ غيا لا تستطيع الكتابة أو القراءة، وتكتفي فقط بكتابة اسمها وبعض الأحرف والأرقام ما يجعلها تبدو أنها تلميذة في الصف الأول الأساسي، لكنها تملك ذاكرة بصريّة مميّزة تساعدها في نسخ وحفظ الأسماء والأشكال والصور. ويجعلها ذلك تدرك هويّة المتّصل بها أو بوالدتها، وتكتشف أيضاً إذا كانت عائلتها تخطّط عبر مجموعة "واتسآب" لزيارة العاصمة بيروت من خلال رؤية الكلمة المكتوبة، حتّى لو لم تذكر في التسجيل الصوتي، كما تفهم بعض الكلمات التي تنطقها والدتها باللّغة الإنكليزيّة. 
وتختم الوالدة بالقول: "لا تحبّ غيا المفاجآت، بل تحرص على الالتزام بالخطط المحدّدة مسبقاً، كما تتحلّى بشخصيّة قويّة مثابرة، وهي مرحة وقريبة من الناس وتملك أصدقاء ومعارف كثيرين. وأنا أرى أن الناس يملكون نظرة خاطئة تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يدركون تماماً مَن يحبّهم ومَن يكرههم ومَن يضحك عليهم، لكن الفرق أنّهم يعبّرون عن أحاسيسهم على راحتهم بكلّ صدقٍ وبراءة، فهم لا يكبتون مشاعرهم، ولا يتقنون التمثيل والتحايل على الآخرين".
وتلفت وسيمة التي هاجر ابنها منذ عامين والتحق بوالده في السعودية، إلى أنّ زوجها يزورها مع غيا باستمرار، وهو ما يفعلانه بدورهما بين وقت وآخر، "فهدفنا جميعاً أن تعيش غيا في فرح وسعادة".

المساهمون