لم يصمد قرار دعم الصناعة الوطنية للأدوية. تسعة أشهرٍ، واكتملت بعدها ولادة القرار الهجين الذي أعلنت بموجبه وزارة الصحة العامة فتح الباب أمام مرحلة جديدة من التقشّف، تطاول هذه المرّة الأدوية المصنّعة والمعلّبة محلياً. توقيت صدور القرار كان منتظراً، نظراً إلى المسار الذي سلكته حلقة الدعم، إلا أن ما يربك هو تضاؤل الخيارات أمام المرضى في الحصول على البدائل الأرخص مع قرب نهاية أسطورة «الدواء المحلي أرخص من المستورد».أول من أمس، كان التطبيق العملي لهذه النهاية، مع إصدار وزارة الصحة القرار 1301 المتعلّق بـ«تسعير الأدوية المصنّعة محلياً، والمصنّعة محلياً أو الموضّبة بإجازة». قرار من ثلاثة أجزاء، قضى بترشيد الدعم على شرائح من الأدوية المحلية، مصنّعة ومعلّبة بنسبٍ معيّنة، وصلت في بعضها إلى الرفع النهائي للدعم.

تخفّف تدريجي
يبدو التخفّف من الدعم تدريجياً، إذ يُبقي القرار على الأدوية التابعة للشرائح B/C/D (تُراوح أسعارها ما بين 55.13 و316.72 دولاراً) بنسبة 55% (يُحتسب سعر مبيع الدواء على أساس السعر المجاز للصناعة الوطنية، يضاف إليه هامش ربح الموزّع وهامش ربح الصيدلي)، فيما تلحق بنسبة 45% الباقية سعر دولار السوق السوداء، والمعتمد اليوم من قبل الوزارة بـ41 ألف ليرة وفق المؤشر الأخير للأسعار.
أما بالنسبة إلى الأدوية التابعة للشريحة A1 وA2 (تُراوح أسعارها ما بين 5.67 و11.34 دولاراً)، فقد بلغت نسبة الترشيد 60%، تُصرف على أساس دولار 41 ألف ليرة، فيما يبقى الدعم على 40% فقط. وتخرج الأدوية المصنّعة أو الموضّبة محلياً بإجازة OTC (التي تُصرف من دون وصفة طبية) وAc-cute (الأدوية التي تُستخدم لمرات قليلة خلال العام) التابعة لكلّ الشرائح والأدوية، الموضّبة محلياً بإجازة، كلياً من حلقة الدعم، بحيث تخضع في التسعير إلى دولار الـ41 ألفاً.
وفي نهاية بيانها، تذكّر الوزارة بأن هذا القرار يُعمل به لمدة 4 أشهرٍ فقط، على أن يُعاد النظر بعدها في النسب والآليات المحدّدة أعلاه!

ماذا يعني هذا القرار؟
يعني أن تعيش لتشتري دواء لا أن تشتري الدواء لتعيش. هكذا يمكن اختصار ما يجري، سواء في السيناريوهات المتكرّرة لترشيد الدعم سابقاً في الأدوية المستوردة، والتي خرجت بمعظمها من الدعم (باستثناء أدوية الأمراض السرطانية وبعض أنواع أدوية الأمراض المزمنة… وباتت مفقودة في معظمها من السوق)، واليوم مع أولى مراحل الترشيد في الأدوية المحلية. والترشيد هنا ليس سوى عبارة ملطّفة جداً لما ينتظره المواطن من معاناة مع تحليق أسعار الأدوية من جهة، وفقدانها من السوق من الجهة الأخرى قبل اللحاق بها إلى الأسواق السوداء.

ابحث عن مصرف لبنان
اليوم، بدأت الوزارة أولى مراحل الترشيد في الصناعة المحلية، ملزمة بقرارات اعتباطية يحبس من خلالها حاكم مصرف لبنان الدعم عن المصانع المحلية من خلال التأخير غير المبرّر للموافقات (وتبلغ قيمتها 8 ملايين دولار أميركي لدعم المواد الأولية الداخلية في صناعة الدواء). وفي الآونة الأخيرة، لم يعد يتسرّب شيء من تلك الموافقات، حتى بات ما في ذمّة المصرف للمصانع «مهولاً»، بحسب تعبير أحدهم، ما دفع أصحاب المصانع إلى الضغط على وزير الصحة فراس أبيض، لاتخاذ إجراءات جديدة بعيدة عن مصرف لبنان. وقد تُرجم الأمر بالقرار الأخير، الذي يرجعه بعض المتابعين إلى غايتين: الأولى إرضاء المصانع الوطنية، والثانية والأهم تعويد الناس على ما هو آت... أي على الخروج التدريجي من الدعم، وفق السيناريو نفسه الذي سارت عليه الأدوية المستوردة. لكن ما يفوت وزارة الصحة أن ثمة فوارق بين الفترة الماضية واليوم، ففي السابق كان لدى المرضى خيار اللجوء إلى البدائل من الأدوية المحلية، أما الآن فلا بدائل مع اقتراب أسعار الأدوية المحلية من تلك المستوردة.
تخرج الأدوية المصنّعة أو الموضّبة محلياً بإجازة OTC وAc-cute كلياً من حلقة الدعم

أضف إلى ذلك أن ما هو باقٍ للدعم، والذي قد يعوّل عليه في عددٍ لا بأس به من الأدوية قد لا يستمر طويلاً، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان الملحوظة الأخيرة في القرار والتي أشارت من خلالها الوزارة إلى إعادة النظر في التسعير والآليات بعد أربعة أشهر. وهو ما يعني بحسب مصادر مقرّبة من الوزير أبيض «نيّته الخلاص نهائياً من الدعم عقب انقضاء هذه الفترة، بسبب المسار الذي تسلكه آلية الدعم في مصرف لبنان».
إلى حيث يريد، أوصل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عشرات الآلاف من المرضى. الحاكم الذي ارتضى صرف مئات الملايين من الدولارات لدعم «الكاجو» و«الكافي ميت» وشفرات الحلاقة «جيلات»، لم يجد ما يتقشّف به سوى صحة الناس، وقد تجلّى ذلك سابقاً بالتنصّل من مبلغ الخمسين مليون دولار أميركي العام الماضي، فخفّضها إلى 35 مليوناً، منها 25 مليوناً للأدوية، ويتجلّى اليوم بتشطيب أدوية من ملفات الموافقات وصولاً إلى حبسها لفتراتٍ طويلة.



الدعم مرفوع مسبقاً!
عملياً، هذه السياسة كانت قد دفعت أصحاب المصانع إلى «التصرّف» لتسيير أمورهم، فكان البعض يعمد إلى دفع بدلات ما يستورده بالدولار الفريش «وفي حال عدم صدور الموافقة يصرّفون الأدوية على أساس ما تكلّفوا به، وكل شيء يشترونه خارج الدعم سيباع خارج الدعم أيضاً، وهذا يعني عملياً أن دولار الدواء اللبناني يسير كما دولار المستورد»، يقول أحد العاملين في مصنع محلي.
كما فتحت اعتباطية مصرف لبنان، وعشوائية سياسة الدعم إلى استفادة أصحاب المصانع «من ثغرة السماح لها بتصدير الدواء إضافة إلى ما تزوّد السوق المحلي به، وهو ما يطرح علامات استفهام عن آلية الدعم خصوصاً في ظلّ عدم وجود رقابة كافية من وزارة الصحة العامة لمعرفة عدالة توزيع هذه الأخيرة للسوق المحلي والخارجي، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان انقطاع أدوية كثيرة محلية منذ بدء الدعم، وعدم تلبية المصانع المحلية للسوق وفق ما كان متوقّعاً».
أما أبرز تجليات هذا القرار فهو انعكاسه على المرضى، إذ ارتفعت أسعار معظم الأدوية، سواء المصنّعة منها أو المعلّبة محلية. وإن كانت نسب الزيادات الكبرى متدنية، بدأت من 0.30%، إلا أن ثمة نسبة لا بأس بها تخطّت عتبتها الـ100%، فيما تخطّت أخرى عتبة الـ1000%، بنسبٍ قليلة. وهذا يعني أن الأدوية المحلية على ضآلتها، قد تكسد لأن أحداً لن يجرؤ على شرائها. في مقابل ذلك، انخفضت أسعار بعض الأدوية بفعل القرار إلا أن نسبتها لم تكن غالبة مقارنة بالزيادات الحاصلة.