صيدا سيتي

من الغياب إلى الحضور

إعداد: إبراهيم الخطيب - السبت 04 تشرين أول 2025 - [ عدد المشاهدة: 1688 ]

همس المدينة

ولمّا نادى منادي البلدية في الناس بإغلاق الطريق بين مسجد الزعتري والميناء، تسلّل الخبر إلى قلب نادر كما يتسلّل الندى إلى غصنٍ عطِش، فاهتزّت نفسه اهتزازَ الشجر إذا مسّها النسيم. كأنّ صيدا كلّها نطقت، وكأنّ جدرانها القديمة تنفّست سرًّا لم يُكشف بعد.
جلس في علّيته المطلة على البحر، يرقب صفحة الماء كمن يقرأ كتاب القدر، والشفق الأحمر ينساب أمامه كدمعةٍ على وجه النهار. كان في عزلةٍ تطول، قد أُخذ من أنسه، وصار كالغريب بين قومه، ينتظر إشراقةً تُعيد إليه دفءَ الروح بعد طول خمود.

الضوء الذي يوقظ الذاكرة

ووقعت عينه على خبرٍ يقول: عرضٌ ضوئيٌّ على القلعة البحرية. فاهتزّ قلبه كما تهتزّ الأرض بعد موتها، ورجَا أن يكون في الضوء بعثٌ لروحه كما يكون في المطر حياةٌ للزرع.
توهّم أن الألوان الراقصة على جدران القلعة ستفتح له بابًا نُسيَ خلفه، وأنّ ما خمد من مشاعره سينهض بإذن ربّه. غير أنّ الخوف المقيم في صدره كان كظلٍّ لا يفارقه؛ يخشى الناس وضجيجهم، ويهرب من الوجوه التي تذكّره بمن رحلوا، كأنّ في كل وجهٍ مرآةً لوجعه.

الطريق إلى الضوء

فلمّا أقبل المساء، خرج متثاقلاً كمن يسير إلى قدره. كانت أزقّة صيدا القديمة تضيق به ثم تتّسع، والريح تحمل عبق البحر وصوت الأطفال وضحكهم كأنّها بشارة. كلّ خطوةٍ كانت جهادًا بين خوفٍ يقيّده ورجاءٍ يحرّره.
حتى إذا بلغ الساحل، رأى القلعة تلبس نورها، وتنتفض من سكونها. هنالك أحسّ أن المدينة تكلّمه بلا لسان: قم، فإن الحياة لم تزل فيك، وإن الليل لا يقوى على من أيقظ الله في قلبه ضوءًا.

طيور الداخل

فرفع بصره إلى السماء، فإذا طيور أيلول تمخر عباب الفضاء في صفٍّ مرصوص، كأنّها تسبّح بحمد خالقها. أحسّ أن في صدره أسرابًا مثلها قد حُبست طويلاً، فآن لها أن تعود إلى فطرتها الأولى.
وانكشف له أن الغياب سجنٌ لمن استسلم له، وأنّ الصمت إذا طال صار حجراً على القلب. فهتف في نفسه كما هتف يوسف في الجبّ: ربِّ أخرجني من الظلمات إلى النور. فعادت الطمأنينة تسري فيه كما يسري النهر في أرضٍ عطشى.

العودة الهادئة

ولمّا انقضى العرض، وقف نادر على شاطئ البحر، يرقب الموج كمن يسمع تسبيحَه. تلألأ الماء كفضّةٍ تحت ضوء القمر، وداخلَه رفرفةٌ خفيفة كأنّها صدى دعاءٍ قديم أجيب بعد طول انتظار.
استشعر أن طيور نفسه قد رجعت إلى أوكارها، وأنّ القلعة البحرية ما كانت إلاّ مرآةً لروحٍ غسلها الله بماء الصفاء بعد غبار الغياب.
فكانت تلك الليلة فتحًا صغيرًا في قلبه، وميلادًا جديدًا لإنسانٍ أدرك أنّ النور لا يُرى بالعين، بل يُبصر بالقلب إذا تنزّل عليه السكون.


 
design رئيس التحرير: إبراهيم الخطيب 9613988416
تطوير وبرمجة: شركة التكنولوجيا المفتوحة
مشاهدات الزوار 1005751387
الموقع لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة فيه. من حق الزائر الكريم أن ينقل عن موقعنا ما يريد معزواً إليه.
موقع صيداويات © 2025 جميع الحقوق محفوظة