كرسي الانتظار (قصة قصيرة)
تأليف: إبراهيم الخطيب
جلس "سعيد" في زاوية العيادة، مستندًا إلى الحائط البارد خلفه. كان مكيف الهواء يعمل بصمت، لكن برودته لم تخفف من الحرارة الخفيفة التي شعر بها في يديه. في الجو، امتزجت رائحة المطهرات الطبية بعبق خفيف من معجون الأسنان، كأنها تذكير مستمر بما ينتظره في الداخل.
من الغرفة المجاورة، تسلل صوت آلة الحفر الكهربائية، ذلك الصوت الحاد المتقطع، كأنه طنين دبور عالق داخل رأسه. تزامن مع شهقة قصيرة، ربما من مريض تفاجأ بوخزة مفاجئة. لا إراديًا، ضغط سعيد على أسنانه، شعر بوخزة خفيفة في لثته، فاسترخت عضلات فكه على الفور.
حاول تغيير جلسته، لكن الكرسي البلاستيكي تحته كان قاسيًا، حوافه تضغط على أطراف فخذه. رفع عينيه إلى الضوء الساطع المنبعث من السقف، أبيض بارد بلا رحمة، جعل كل شيء يبدو أكثر تعقيمًا، وأكثر توترًا.
ألقى نظرة خاطفة على الموجودين. الرجل المسن يجلس باستقامة، مسبحته تتنقل ببطء بين أصابعه، وكأنها آلة تقيس الوقت بانتظام صامت. المرأة الأربعينية تراقب الساعة، أصابعها تنقر بلا وعي على حقيبتها الجلدية، الصوت الخفيف المنتظم بدا كأنه عد تنازلي غير مرئي. الشاب ذو السماعات يهز رأسه مع إيقاع موسيقاه، عازلًا نفسه تمامًا عن المكان.
كلهم ينتظرون، لكن هل يشعرون بنفس الثقل الذي يشعر به؟
انفتح باب العيادة فجأة، وخرج شاب في الثلاثينيات، يمسك خده، وجهه شاحب وملامحه متجهمة. سار بخطوات متثاقلة نحو الممرضة وقال بصوت متحشرج:
- "هذا مستحيل! قلتِ لي إنها جلسة بسيطة، لكنها كانت تعذيبًا!"
في تلك اللحظة، مرّ تيار بارد في عمود سعيد الفقري. شيء ما في نبرة الرجل جعله أكثر توترًا، كأن الألم كان معديًا.
هزّ الرجل المسن رأسه قائلاً:
- "ذكرتني بنفسي قبل سنوات."
رفع سعيد حاجبيه باهتمام، بينما أكمل الرجل بنبرة هادئة:
- "كنت أؤجل زيارة الطبيب عامًا بعد عام، أقنع نفسي أن الألم سيختفي وحده. ثم في يوم استيقظت ووجهي منتفخ كالبالون، بالكاد استطعت فتح فمي. دخلت العيادة، وحينها، لم يعد الأمر مجرد حفر بسيط… بل اقتلاع."
زفرت المرأة الأربعينية وقالت:
- "أشعر وكأنني أسمع قصتي! لطالما أجّلت مواعيدي حتى يصبح الألم أقوى مني."
ضحك الشاب ذو السماعات قائلاً:
- "وأنا أتساءل، لماذا نخاف من طبيب الأسنان أكثر من أي شيء آخر؟ لو كان بيدي، لاخترعت علاجًا بلا حفر أو إبر!"
ضحك الرجل المسن وهو يقول:
- "لو فعلت ذلك، ستكون قد أنقذت البشرية."
ابتسم سعيد، لكن شيئًا ما كان يتحرك داخله. نظر إلى اللوحة المعلقة أمامه:
"العناية بالأسنان ليست رفاهية، بل ضرورة."
لم يكن الألم في أسنانه المشكلة الحقيقية. بل فكرة الانتظار، التأجيل، والخوف من المواجهة. نظر إلى الباب المفتوح، ثم إلى الباب الآخر... باب الخروج.
نهض، شعر بحرارة مفاجئة تحت جلده، كأن الكرسي الذي كان يجلس عليه طوال هذا الوقت كان يحرقه دون أن ينتبه. مدّ يده إلى جيبه، أخرج هاتفه، وكتب ملاحظة سريعة قبل أن يغلقه.
ثم، دون أن ينطق بكلمة، خطا خطوة حاسمة... لكن ليس نحو العيادة.
خرج من الباب الرئيسي، تاركًا خلفه كرسي الانتظار، والانتظار ذاته.
في الخارج، كان الهواء منعشًا، الشمس أكثر دفئًا مما توقع.
نظر إلى الملاحظة التي كتبها قبل ثوانٍ، وقرأها بصوت منخفض:
"العناية بالأحلام ليست رفاهية، بل ضرورة."
ثم ابتسم، واستمر في المشي، بعيدًا عن الانتظار... وباتجاه الحياة.