جرت العادة في كثير من المؤسّسات التعليميّة، بعد الانتهاء من التقويم الختاميّ للمتعلّمين، أن يُصار إلى إحالة من يظهرون مشكلات تراكميّةً في أحد المستويات الأكاديميّة، أو النمائيّة، للخضوع تشخيص نفس - تربويّ، لتحديد طبيعة المشكلة التي تواجههم. هذه الإحالة غالبًا ما يسبقها إجراء تدخّلات تربويّة، كتعديل الأهداف التعليميّة أو اعتماد استراتيجيّات التعليم التي تتناسب مع المستوى الحاليّ للمتعلّمين.لكن، ثمّة مدارس حكوميّة وخاصّة كثيرة لا تزال متلكّئةً، أو لعلّها عاجزة، عن اعتماد سياسة تعليميّة تراعي خصوصيّة المتعلّمين الذين يظهرون قصورًا في أحد جوانب التعلّم، أو الجوانب النمائيّة مثلًا. وقد يكون أحد أسباب عزوف هذه المؤسّسات عن العمل ضمن سياسة المدارس الدامجة، صعوبة استقبال كلّ المتعلّمين الذين تختلف الصعوبات لديهم، أو صعوبة تكوين فريق مدرسيّ يتخصّص بجوانب القصور كلّها لدى الأطفال، أو ربّما الكلفة العالية التي يحتاجها هذا النوع من الخدمات.
لذلك، تستعين مدارس كثيرة بفريق خارجيّ للتشخيص وإعطاء توصيف للمشكلات التي يواجهها المتعلّمون. وقد تكون التوصيات الصادرة عن جهة التشخيص غير فاعلة أحياناً، في ظلّ عدم وجود فريق مدرسيّ متخصّص يعمل على تقديم الدعم لهم وفق التوصيات. وهذا قد يقلّل من أهمّيّة التشخيص، إلّا إذا قرّر الأهل الاستعانة بهذه المراكز لتلقّي خدمات متخصّصة غالبًا ما تكون - رغم أهمّيّتها وكلفتها العالية - غير كافية لتطوير مهارات الأطفال، لأنّ مثل هذه التدخّلات تحتاج إلى متابعة دائمة.
ورغم دقّة تشخيص الأطفال الصغار، إلّا أنّ هذا الأمر أصبح أكثر تعقيدًا مع الغياب القسريّ للأطفال عن المدارس نتيجة جائحة كورونا، ما حرمهم من تلقّي تعليمهم بصورة تفاعليّة، خصوصاً الأطفال ذوي الإعاقات أو الصعوبات التعلّميّة. هذا الغياب لم يؤثّر فقط على مكتسباتهم، بل كانت تداعياته متنوّعةً، فلم تقتصر على التعليم والتعلّم وأساليب التقييم، بل تعدّتها إلى الخصائص النفسيّة والسلوكيّة والاجتماعيّة والمهارات الذهنيّة للأطفال جميعًا، ما شكّل فئةً جديدة من الأطفال باتت خصائصهم متشابهةً إلى حدّ كبير مع خصائص الأطفال ذوي الصعوبات التعلّميّة، من دون أن يعني ذلك أنّ تلك الخصائص باتت أمراً ثابتاً لديهم؛ إذ قد تتغيّر بعد عودتهم التدريجيّة إلى مقاعدهم الدراسيّة، إن تم التعامل معها بالطرق الصحيحة.
السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيفيّة التعامل مع الأطفال الذين يظهرون تلك الخصائص المشابهة مع الصعوبات التعلّميّة، خصوصاً في المدارس التي لم تختبر بعدُ تجربةً من هذا القبيل، أو تلك التي ليست لديها خدمات في التربية الخاصّة؟ وهل يحال كلّ هؤلاء إلى مراكز التشخيص التربويّ لمعرفة طبيعة المشكلات أم لا بدّ من الانتظار مدّةً زمنيّةً معيّنةً؟

محكّات ضروريّة
قبل اتّخاذ قرار بالتشخيص أو تأجيله، لا بدّ من العودة إلى المحكّات الأربعة التي وضعها قانون الأفراد ذوي الإعاقة الأميركيّ (IDEA, 2006)، والذي ينصّ على استبعاد العوامل التي قد لا تكون مسبِّبًا أساسيًّا للصعوبات التعلّميّة، مثل وجود قصور في السمع أو البصر، أو وجود أسباب عاطفيّة أو اجتماعيّة وغيرها. لكنّ المحكّ الأساس الذي شدّد القانون على ضرورة استبعاده هو المحكّ المتعلّق بجودة التعليم، وهو الافتقار إلى التوجيه المناسب (Lack of appropriate instruction)، فلو استبعدنا محكّ الوضع الاقتصاديّ، والقصور البصريّ مثلًا، وكان التعليم الذي يتلقّاه الطفل يحقّق الجودة اللازمة، وجب علينا البحث عن أسباب أخرى لمعرفة مسبّبات الصعوبات التعلّميّة التي يظهرها الطفل، كأن نقيس بعض المهارات الذهنيّة مثل الذاكرة العاملة، والانتباه، والتركيز على سبيل المثال.
يعود الكثير من الأطفال إلى المدرسة مع تأخّر واضح في مستوى مهاراتهم


أمّا في حالة الغياب القسريّ عن المدرسة الناتج عن جائحة كورونا، فإنّنا لا نستطيع الحكم على الأطفال بأنّ لديهم صعوبات تعلّميّةً، حتّى لو تشابهت خصائصهم مع خصائص الأطفال ذوي الصعوبات التعلّميّة، لا سيّما أنّنا لا نعرف الكثير عن استجابة الأطفال للتعلّم عن بعد، ولا نعرف عن التفاوت الحاصل بين مدرسة وأخرى، ولا بين مادّة تعلّميّة وأخرى، ولا بين معلّم وآخر. إذ إنّ المعلّم قد يواجه بنفسه تحدّيات تتعلّق بطريقة إيصال المعلومات والمفاهيم خصوصاً للأطفال الصغار. أضف إلى ذلك أنّنا لا نعرف ما إذا كانت ظروف الأطفال متشابهةً؛ إذ نسمع كثيرًا عن التناوب على الحاسوب أو الهاتف الذكيّ بين أبناء البيت الواحد، والانقطاع المتكرّر أو الدائم للإنترنت والكهرباء. فوق هذا كلّه يأتي المستوى التعليميّ للأهل، وكيفيّة متابعتهم لتدريس أطفالهم، والوقت الذي يقضونه في الدرس. عليه، لا نستطيع بأيّ صورة استبعاد المحكّ الأساسيّ الوارد في قانون الأفراد ذوي الإعاقة خصوصاً أنّنا لا نملك المعطيات الكاملة عن جودة التعليم في هذه المرحلة.

بدائل ضروريّة
يأتي الحلّ عبر خطوات مدروسة يقوم عليها صانعو القرار من مديري مدارس إلى الوزارات المعنيّة، من خلال السعي الجدّيّ والحثيث لوضع خطط شاملة لإجراء عمليّات مسح لمستويات الأطفال، لا سيّما في مرحلة التعليم الأساسيّ، على مستوى مهارتي القراءة والكتابة، والمفاهيم الأساسيّة المرتبطة بالصفّ التعليميّ الذي يلتحقون به. بعد عمليّات المسح هذه، يأتي دور المراجعة العامّة للمفاهيم الأساسيّة في المنهاج، والتركيز على الكفايات الضروريّة، ومراجعة الأساسيّات في كلّ الموادّ الدراسيّة، إلى جانب التقييم المستمرّ. ولأنّه من المتوقّع أن يعود الكثير من الأطفال إلى المدرسة مع تأخّر واضح في مستوى مهاراتهم مقارنةً مع ما هو متوقّع منهم، لذلك فإنّ مبدأ التدخّل للصفّ كلّه سيكون أمرًا ضروريًّا في هذه المرحلة.
بعد إعطاء الوقت الكافي لهذه التدخّلات الجماعيّة والفرديّة، تأتي الخطوة الثانية، وهي إحالة بعض الأطفال إلى التشخيص النفس - تربويّ لمعرفة أسباب الصعوبات التعلّميّة التي يواجهونها.
بناءً على ما سبق، فإنّ المباشرة بإحالة الأطفال إلى مراكز التشخيص النفس - التربويّ مباشرةً مع بدء العودة إلى المدارس لن يكون عادلًا لأيّ جهة، واستعجال الأهل في أخذ هذا القرار على المستوى الشخصيّ لن يكون صائبًا، لكنّ هذا لا يمنع من استشارة المعنيّين للاطمئنان، أو لمعرفة الخطوات الواجب اتّباعها. في الكفّة الأخرى، فإنّ تجاهل القياس بصورة مطلقة بحجّة أنّ سبب تأخّر بعض الأطفال ناتج فقط عن التعلّم عن بعد قد يكون قرارًا خاطئًا أيضًا.
رغم أنّ الجميع ينتظر عودة الأطفال إلى مدارسهم، فإنّ تحدّيات كثيرةً تنتظر الجميع. إذ ثمّة جوانب نفسيّة وانفعاليّة تحتاج أيضًا إلى القياس، ويجب عدم الارتكاز فقط على الجوانب الأكاديميّة والمهارات. هكذا، فإنّ دور المعلّم في المرحلة المقبلة سيكون فيه الكثير من البحث، والتجربة، والتشاور مع المختصّين لتعود الأمور إلى مجراها الاعتياديّ.
* أستاذة جامعية